لبنان ينهار.. لا ينهار
الثلاثاء 23 نيسان 2019
لافتٌ ما يحصل في لبنان، خصوصاً الحديث عن الوضع الاقتصادي الصعب، الذي بات مرافقاً لمصطلح "الانهيار الاقتصادي". انهيار يترقبّه الجميع في المبدأ، على اعتبار أنه "حتميّ". حتمية مستندة إلى تراكمات الممارسات الدولتية في لبنان التي لم تكن على قدر التحدّيات. لم تعد وسائل الإعلام اللبنانية تتحدث سوى عن "تخفيض رواتب القطاع العام"، و"التقشف" وضرورة تطبيقه، و"التضحية المشتركة من الجميع"، و"إنقاذ لبنان"، وغيرها من العبارات التي يُمكن لها أن تؤدي إلى انهيار أسواق وعملات، لو أن في لبنان نظاماً اقتصادياً حقيقياً.
يعلم الجميع تقريباً أن الاقتصاد اللبناني مبنيٌّ أساساً على ثنائية تهريب الحشيشة وتبييض الأموال. وهي ثنائية كُرّست منذ ثلاثينيات القرن الماضي، وساهمت في الدور الرائد للمصارف اللبنانية التي تميّزت بسريّتها المصرفية. لم تنتبه الدولة اللبنانية، أو لم ترد تحويل الاقتصاد إلى صناعي أو زراعي، مكتفية بالأموال السهلة، الناجمة عن قطاع الخدمات بشكل عام. ثم جاءت المليشيات التي تسلّقت أسوار الدولة، وتغلغلت فيها، وجعلتها بقرة حلوباً لها ولأنصارها، منذ نهاية الحرب اللبنانية (1975 - 1990). بات الوضع مأساوياً، إلى درجة أن العهود الرئاسية التي تتالت على لبنان في حقبة السلم لم تتمكن من مواجهة المليشيات، فركنت إلى مهادنتها، والغَرْف من خزينة الدولة.
الآن، انتهى زمن الغَرْف. لا أموال في الخزينة. وزير المال يُعلن كل عام عن إصدار سنداتٍ دوليةٍ لمعالجة جزء من الخلل في موازنة الدولة، لكنه ترقيع من دون حلّ جذريّ. عملياً، وصل اللبنانيون إلى الجدار المسدود. الحلول ضاقت، ولم تعد مُتاحةً كما كانت قبلاً. صندوق النقد الدولي يراقب البلاد تمهيداً لخطوة سلبية متوقعة، بناء على سلوكيات الدولة في السابق. مانحو مؤتمر سيدر الذي انعقد في نيسان 2018، وضعوا شروطهم على الطاولة. لن يمنحوا الأموال مجاناً كما كان سابقاً، ليقينهم بأنها ستُسرق وتُنهب وتوزّع على المليشيات والسياسيين ورجال الأعمال والمصارف وأنصارهم. "الإصلاحات أولاً". هذا هو شعارهم، وهذا ما أصاب الدولة بوهنٍ عميق.
عادة، لم تتمكّن الدولة من ضبط ميزانيتها. دائماً كان هناك خللٌ في مكانٍ ما. ودائماً يكون ناجماً عن تهريب أموال أو مخدرات. كان معلوماً أن هذا الخلل يُمكن أن ينجد مالية الدولة إلى حين، لكن ليس دائماً. بالتالي، يعدّ الاختبار الحالي للدولة اللبنانية أدقّ اختبارٍ يُمكن أن تشهده البلاد في تاريخها. اختبارٌ مربك لها، دفعها إلى التلويح بحلولٍ تمسّ موظفي القطاع العام في المرحلة الأولى، علماً أن هناك مداخيل يُمكن توفيرها من الأملاك البحرية المتعدّية على المساحات العامّة، ومن التهرّب الجمركي المستمرّ في المرفأ والمطار، والتهرّب الضريبي الذي تمارسه الشركات والمصارف الذين يُمكن فرض ضرائب كبرى عليهم وتصاعدية، فضلاً عن إلغاء الامتيازات الممنوحة لرؤساء ووزراء ونوابٍ، حاليين وسابقين. كما يُمكن، مجرّد اقتراح، إلغاء رواتب موظفي سكة الحديد، على أساس أنه لا قطار في لبنان من جهة، ولا حاجة للموظفين في مواقع أخرى في قطاع النقل أو وزارة الأشغال من جهة أخرى.
تتحجّج الدولة اللبنانية بأنها "في حاجةٍ إلى حلٍ سريعٍ للإنقاذ , لذلك لا يُمكنها القيام بأي إصلاحٍ جذري". طبعاً الوصفة اللبنانية جاهزة في هذا الصدد: احصل على الأموال أولاً ودع غيرك يردّها مع فوائدها لاحقاً. ثم يأتي هذا "الغير"، فيقوم بالمثل، لتتراكم الأمور وصولاً إلى يومنا هذا، فيتحمّل مسؤولية الأزمة الاقتصادية ذوو الدخل المنخفض دون غيرهم، ويهرب أصحاب الرساميل إلى بلد "آمن" استثمارياً.
ربما قد لا يحصل هذا الانهيار، لأسبابٍ عدة، مرتبطة أساساً بمصالح الطبقة الفاسدة التي ستفقد امتيازاتٍ كثيرة بموجبه، وقد يكون الأمر مجرد تهويل. لكن المؤكد أن الانهيار، إن حصل، فقد يكون التحوّل الأكثر إيجابيةً منذ نشوء الدولة اللبنانية.
المكتب الإعلامي المركزي