كلمة نائب الجماعة الإسلامية الدكتور عماد الحوت خلال جلسة مناقشة مشروع قانون موازنة العام 2022 في المجلس النيابي

الجمعة 16 أيلول 2022

Depositphotos_3381924_original

https://fb.watch/fzJ1JeZ8Lf/

دولة الرئيس، السادة الزملاء

دولة رئيس الحكومة السادة الوزراء

 

وأنا أنظر في أرقام الموازنة، جال في خاطري قصة نبي الله يوسف وتعامله مع أزمة اقتصادية برؤية وخطة تقومان على ثلاثة أسس: التنمية وقد استثمر بالزراعة، ومبدأ "خبي قرشك الأبيض ليومك الأسود" أو التوازن في الإنفاق، ومبدأ العدالة في التوزيع عند الأزمة مع اعتماد المبادلة في البضائع بعيداً عن الضرائب. ولكني أفقت من أفكاري على واقع أن بعض من يتصدر لإدارة شؤون البلاد اعتمد نموذج قارون الذي كان إذا امتلك جبلاً من ذهب سأل ولمن الجبل الثاني؟

 

دولة الرئيس

أبدأ كلمتي بحمد الله الذي لا يحمد على مكروهٍ سواه على عودة الإنتظام شكلاً للمالية العامة من خلال مناقشة مشروع موازنة 2022، آملاً أن تتاح لنا مناقشة مشروع موازنة 2023 في وقتها الدستوري والمفيد.

كما لا بد لي أن أؤكد من باب الإنصاف، على أن ما نمر به من تعثّر اقتصادي ليس كله من نتاج أداء هذه الحكومة، وإنما أيضاً نتيجة تراكم سنواتٍ سبقت من المحاصصة والهدر وممارسة الفساد أو السكوت عنه.

 

دولة الرئيس

لا ينبغي لنا مهما اشتدت الأزمات أن نستسلم لواقعنا، أو أن نقبل أن تُصنع لنا أزمة ثم نُدفع الى تسوياتٍ عشوائية لا تمثل حتى الحد الأدنى المطلوب من مقومات الوطن الذي يستصرخنا للنهوض من كبوته.

يدعي البعض أن التوافق السياسي في ما مضى قد جنّب البلاد خطر التوتّر، ولكنه في الحقيقة لم يحقق الثقةَ بين أطرافه أنفسهم ولا بين المواطنين والدولة، ولم يفلح في تحقيق الإصلاحات الإقتصادية والإدارية المطلوبة بل على العكس عمّق ممارسة المحاصصة، وها نحن نسمع من الجميع بأن الفساد موجودٌ في مفاصل الدولة ويجب محاربته ثم لا نجد فاسداً واحداً قد تمّت محاسبته ومحاكمته واسترداد الأموال منه في رسالةٍ تعيد للمواطن الثقة بالدولة.

شبابنا يا دولة الرئيس ينادي بحوكمة رشيدة في إدارة الدولة أساسها الشفافية ومحاربة الهدر والفساد، شبابنا يحب أن يرى عاصمته الحبيبة بيروت سيدة العواصم من جديد لا مدينة أشباحٍ في الليل أو شوارع تغمرها النفايات.

والاستجابة لمطالب الشباب تستدعي منهجية تفكيرٍ بعيدة عن محاولات تكريس الذات على حساب الشركاء في الوطن، وتستدعي تجاوز التنافس على المواقع وأحلام النفوذ.

لست أدري ايها السادة كيف ينام المسؤولون عن إدارة البلد ومناطق عديدة من لبنان من بينها عدد كبيرٌ من أحياء العاصمة بيروت محروم من الكهرباء بالكامل منذ أكثر من ثلاثة اسابيع، ومحروم أيضاً من الماء منذ أكثر من شهر، ومحروم من القدرة على الطبابة والاستشفاء وغير ذلك كثير.

نحن اللبنانيون لسنا بحاجة الى كرتونة مونة أو مجمع حليب، نحن بحاجة الى شعور حقيقي بالمواطنة، والى رؤية سياسية تعيد الإعتبار للوطن والى رؤية اقتصادية واضحة المعالم تعمل على نهوضه من أزمته، نحن بالمختصر بحاجة الى رجال دولة تحسن إدارة الدولة وتقدّم مصلحة الوطن والمواطنين على أي مصلحةٍ أخرى.

 

أيها السيدات والسادة، يبشّرنا البعض أن الغاز قد اقترب أوان العمل على استخراجه وأنه الأمل في خروجنا من النفق، ولكنني أقول بأن استخراج الغاز ليس الحل، والرهان على الثروة النفطية للخروج من الأزمة ليس الحل، أزمتنا أن الدين العام بلغ 95 مليار دولار امريكي ضاعت دون أن نملك أي شيء من مقومات الدولة: لا كهرباء، لا مياه شرب، لا أمان صحي، لا زراعة، لا صناعة، لا بنى تحتية، أي أن أزمتنا بالمختصر سوء الإدارة.

وفي الأزمة الحالية، وعلى مدى ثلاث سنوات من عمر الازمة، يمكن القول أن السلطة بكامل مكوناتها تنحّت عن تحمّل مسؤولياتها تجاه المجتمع، فلم تبادر الى احتواء تداعيات الأزمة وتقديم تصوّر واضح للعلاج، النتيجة خسائر فادحة متراكمة من أجل كسب الوقت.

لقد جرى استعمال السيولة المتوفرة بواسطة القرار السياسي من أجل الإستمرار في إنكار الأزمة مما أضاع على الاقتصاد اللبناني أكثر من سنتين ارتفعت خلالهما الخسائر الكلية بشكلٍ حاد، وتكبّد الشعب اللبناني خسائر كان يجب أن تقع على الذين تداخلت مصالحهم المالية والسياسية، ودخلنا بذلك في لعبة الإقتصاد المتروك في السقوط الحر نتيجة انشغال أهل الحكم في صراعاتهم وربما تعمد بعضهم تمرير الوقت لكي تذوب ودائع المودعين وتفقد قيمتها.

أزمتنا ليست مستعصية على الحل، فحجم اقتصادنا صغير ويمكن أن يتعافى تدريجياً، ولكن ليس من خلال موازنة توازن أرقام تقليدية غابت عنها فذلكتها التي تحدد السياسة الاقتصادية والرؤية الإنقاذية التي قامت عليها، بل بموازنة إصلاحية ترتبط بمجموع النشاط الاقتصادي والإجتماعي، وموازنة البرامج والأداء التي تركّز على الإنجازات وعلى أن أكلاف الخدمة أو المشروع كانت مناسبة، حتى نستطيع أن نقر الاعتمادات لبرامج واضحة ومحددة ونقيّم الإنتاج ونحاسب على اساسها.

الحل أن نبني اقتصاداً حقيقياً، ونقوم بإصلاحات حقيقية لأننا مقتنعون بضرورتها وجدواها وليس لنيل رضى صندوق النقد الدولي، والحل باستثمار ثروتنا البشرية بدلاً من دفعها للهجرة دفعاً هرباً من وطن لا تشعر فيه بشعور المواطنة.

 

دولة الرئيس

يُحكى أن بلدةً كانت تعاني من ضائقة اقتصادية انعكست على أحوال المواطنين، فقرر حاكم البلدة أن يضيف ضريبةً على المواطنين العاديين، فوضع خزّاناً كبيراً في ساحة البلدة وطلب من كل ساكنٍ فيها أن يضع فيه دلواً من الحليب، وحين أراد أن يتفقّد حصيلة ضريبته، فوجئ بأن كل مواطنٍ وضع بدل الحليب الذي لم يعد يملكه ماءً وهو يظن أن الآخرين سيضعون الحليب ولن ينتبه لفعلته أحد.

وأنا أخشى أننا لن نجد سوى الماء في خزّان الموازنة القائم على الضرائب، بل أخشى أن لا نجد حتى الماء لأننا لم نعمل على سد ما في الخزّان من مسارب الهدر والفساد.

إن إقرار الموازنة يمثّل خطوة مهمة باتجاه انتظام المالية العامة، ولكن مشروع الموازنة يعاني من مجموعة من الثغرات ينبغي التوقف عندها.

نحن نناقش موازنة العام 2022 في شهر أيلول، وفي هذا مخالفة للمادتين 32 و 83 للدستور من جهة، وهذا يحول المجلس النيابي الى جهة تعطي الحكومة براءة ذمة عما أنفقته في الأشهر التسعة الأولى من جهة أخرى.

ونحن نستمر في تكريس عادة وضع وإقرار موازنة عامة من دون قطع الحساب في مخالفة متكررة للمادة 87 من الدستور. وفي حال تعذّر تدقيق قطع الحساب من ديوان المحاسبة لأسباب لا مجال لمناقشتها اليوم، فلقد كان من واجب وزير المالية والحكومة إرفاق مشروع الموازنة بتقرير يبين الواردات الحقيقية والإنفاق الحقيقي للعام 2021 وللاشهر الثمانية الأولى للعام 2022 لمزيد من الشفافية ولنقوم كنواب بدورنا الرقابي على الإنفاق.

نحن نكرّس أيضاً تضمين الموازنة في الفصول 2 و 3 و 4 مجموعة من المواد التي لا تتعلّق بالنفقات والإيرادات المتوقعة والتي يجب على كل واحدة منها أن تقدم مع أسباب موجبة ودراسة أثر اقتصادية واجتماعية فضلاً عن أثرها على تشريعات أخرى.

مشروع الموازنة يتضمن مخالفة مبدأ سنوية الموازنة (المادة 83 من الدستور) حيث تضمنت مواداً تنطبق لعدة سنوات (المواد 20 – 22 – 23 – 73 – 83 – 84 – 85 – 86 – 87 وغيرها).

نحن نناقش موازنة وزعت علينا من دون الفذلكة التي تتناول الحالة الإقتصادية والمالية والمبادئ التي اعتمدتها الحكومة في مشروع الموازنة، وتحديد التوقعات لنسب النمو والتضخّم، وسعر الصرف، والناتج المحلي الإجمالي ومسار الدين العام.

لماذا تم التراجع عن فرض ضريبة على الشقق الشاغرة، مما يحول دون وضع سياسات سكنية ناجحة بما يخفف بدلات الإيجار نتيجة زيادة العرض.

لماذا تم التراجع عن إلزام الإدارة الجمركية بإنشاء قاعدة بيانات الكترونية تحفظ فيها التصاريح والمحاضر والمستندات المتعلقة بنقل الأموال باليد عبر المطارات والمرافئ؟

لماذا تم التراجع عن فكرة الضريبة على الثروة؟

من جهة أخرى، إن تأجيل اعتمادات البرامج لا تلغي بالضرورة الاستحقاقات بالكامل وإنما تؤدي الى منازعات مع المتعهدين قد ينتج عنها أثر مالي يجب أن يؤخذ بعين الاعتبار.

هناك في هذه الموازنة عدم واقعية في الواردات المقدرة في ضوء حالة الإنكماش وعدم تحديد سعر الصرف. والسيناريوهان الواردان في تقرير لجنة المال والموازنة (12.000 و 14.000 ليرة للدولار) لا ندري على أي قاعدة تم اختيارهم وكأن وزارة المال لا تملك رؤية اقتصادية اجتماعية للموازنة تدافع عنها أو دراسات أثر لزيادات الرسوم والضرائب، وصار دورها "قل لي اي سعر صرف تريد أقل لك كم تبلغ الإيرادات المتوقعة".

أين هي دراسات الأثر الإقتصادي والإجتماعي المتعلقة بالارقام والضرائب والرسوم الواردة في الموازنة على الناس وعلى المستهلكين والطبقات الفقيرة. نحن اليوم نقوم بزيادة الضرائب والرسوم على الناس دون إعطاء رؤية للخروج من الأزمة بالمقابل (وكأنها إدارة تفليسة).

ما هو أثر الدولار الجمركي على المواطنين وأغلبهم ما زالت مداخيلهم بالليرة اللبنانية فيما تحتسب أسعار الإستهلاك على اساس العملات الأجنبية؟

كل هذه الأسئلة لا أجوبة واضحة عليها لينبني عليها الموقف من مشروع الموازنة.

 

أختم كلمتي بمجموعة من التوصيات:

  تطوير منهجية اقتصادية تهدف الى تشجيع الإنتاج بدل الإستهلاك.

  إلغاء المؤسسات غير المجدية (توصيات لجنة المال والموازنة للعام 2019)

  انهاء التعديات على الأملاك العامة البحرية وتنظيم حسن الإستفادة منها.

  التقليل من الاقتصاد النقدي من خلال تسهيل استخدام البطاقة المصرفية والشيكات للمبالغ فوق حد معين.

  تعميم الرقم الضريبي الموحد لجميع المواطنين والمقيمين الأجانب على الأرض اللبنانية وربطه برقم الهوية أو جواز السفر أو الإقامة.

  التصريح الشامل عن الأصول والإيرادات في الداخل والخارج.

  الإنتقال من نظام الضرائب النوعية الى نظام الضريبة الموحد الذي يشمل كل أنواع الدخل للأسرة وفق شطور تصاعدية على الدخل على غرار فرنسا.

  اعتماد ضريبة تصاعدية على أرباح شركات الأموال.

  إقرار ضريبة تضامن اجتماعي على الثروة تفرض لمرة واحدة على الثروات التي تتجاوز ال/ 500 ألف دولار، تكون تصاعدية (3% من 500 ألف الى مليون، 5% من مليون الى 5 مليون، و7% فوق الـ 5 مليون) لا تطال الصناديق الضامنة والتقاعدية والمؤسسات الخيرية. ولقد طبقت هذه الضريبة في فرنسا عام 1945 و 1982، وفي النروج، وسويسرا، وإسبانيا وهولندا والهند.

توضع هذه الأموال في صندوق يخصص لتمويل الإنفاق الإجتماعي وإطفاء جزء من الدين العام لصالح رد أموال المودعين.

  التأكيد على حماية كافة الودائع المصرفية وعدم المس بها كحق أساسي كرسه الدستور.

  إعادة النظر بالاتفاقيات الجمركية القائمة بهدف حماية المنتجات الوطنية.

  اعتماد اقتراح لجنة المال والموازنة المتعلّق برواتب القطاع العام بمضاعفة الراتب ثلاث مرات، خاصةً وأن البنك الدولي ذكر في تقريره عن لبنان " لم تكن كلفة القطاع العام مفرطة نسبةً الى الناتج المحلي الإجمالي وإنما كان تأثير هذه الكلفة يتعلّق بفاعليتها والخضوع السياسي للعاملين".

 

أيها السيدات والسادة، أختم بمقولةٍ شهيرةٍ لعمر بن الخطاب يقول فيها "لو عثرت بغلةٌ في العراق لخشيت أن يسألني الله عنها "لم لم تعبّد لها الطريق؟" وأدعو أهل السلطة في بلادي الى تحضير الجواب أمام الله عن أكثر من أربعة ملايين لبناني يكادوا يكونوا متروكين لوحدهم يواجهون واحدة من أسوأ الأزمات الإقتصادية في العالم.

وشكراً.