التحولات الفكرية والتنظيمية في الساحة الإسلامية بعد ثورات الربيع العربي

الأربعاء 28 أيلول 2016

Depositphotos_3381924_original

مداخلة الأمين العام للجماعة الاسلامية الأستاذ عزام الأيوبي ضمن ندوة بعنوان "التحولات في الحركات الاسلامية" التي أقامها مركز الجزيرة للدراسات في الدوحة، بمشاركة قيادات الحركات الإسلامية، ومجموعة من المفكرين، والأكاديميين، والباحثين المتخصصين

بسم الله الرحمن الرحيم

" التحولات الفكرية والتنظيمية في الساحة الإسلامية بعد ثورات الربيع العربي"

من البديهي أن تؤدي أحداث كبيرة مثل ثورات الربيع العربي إلى تغييرات وتحولات عميقة في مسارات الشعوب والقوى الفاعلة في المنطقة التي وقعت فيها هذه الثورات، ومن الطبيعي أيضا أن تطال تلك التحولات الساحة الإسلامية وحركاتها على وجه التحديد، ذلك أن تلك الساحة كانت من الأكثر تفاعلا مع الأحداث، وكان تقدمها إلى واجهة المشهد، سواء على مستوى السياسة والحكم، أو على مستوى المواجهة، المسلحة منها، أو الشعبية السلمية، لأنظمة الحكم القمعية، بعد سنوات طويلة من قمع الأنظمة الإستبدادية لها، ومحاولة إقصائها عن كل مناحي الحياة السياسية بل وحتى الإجتماعية والإقتصادية، كان هذا التقدم قد أدخلها في ميادين لم تعمل فيها من قبل، وبالتالي لم تخبر أبعاد وحاجات القيام بمتطلباته. دون أن يعني هذا الكلام عدم كفاءتها أو كفاءة كوادرها للإنخراط في تلك المسارات.

 


ولعله من المناسب الإشارة إلى أن التحولات التي نتحدث عنها ليست بالضرورة وليدة أحداث الثورة بذاتها،  وإنما قد تكون نتيجة لما كشفته مآلات الثورات وأحداثها من ثغرات كانت موجودة أصلا لدى الساحة الإسلامية، ولم تسمح الظروف وطبيعة نشاط وعمل تلك الساحة سابقا باكتشاف تلك الثغرات. وقد تكون أيضا نتيجة طبيعية لما طرأ من مستجدات في البيئة التي تعمل فيها، أو نتيجة لتغير الأولويات وتبعا لفقه المرحلة.

 


ولا أظن وأنا أتحدث إليكم اليوم أن حدود التحولات والمتغيرات في الساحة الإسلامية قد استقرت بعد، لأن المنطقة لا تزال تعيش في الذروة من حالة السيولة والتدافع. لكنه يمكننا بدون شك أن نحدد الملامح الأساسية، وأهم نقاط التحولات الفكرية والتنظيمية لهذه الساحة. واسمحوا لي أن أشير إلى أن ملامح التحولات التي سأذكرها، إنما هي من خلال رؤيتي للساحة من زاوية الحركة الإسلامية في لبنان، والتي قد تتطابق مع العديد من الساحات الأخرى، وقد تكون لها خصوصيتها وتمايزها عن سواها من الساحات والحركات.


إن أهم ملامح التحولات في الساحة الإسلامية يمكن معرفتها من خلال الإطلاع على ما أظهرته الثورات في طريقها للوصول إلى بناء الدولة المنشودة، والذي تبين أنه ليس مجرد سباق يحسم في صندوق الانتخابات. فالقوى التي جمعتها طريق إسقاط النظام المستبد، ليس بالضرورة أن تجمعها رؤية واحدة للدولة الحديثة. وهذا ما حصل فعلا في أكثر من مكان، حيث وجد الإسلاميون أنفسهم في المرحلة الأولى جنبا إلى جنب مع أعداء الأمس، من علمانيين وقوميين وغير ذلك من المكونات، التي رفضت الظلم وسعت إلى إسقاط دولته. لكن هذه المكونات سرعان ما عادت إلى خلافاتها بمجرد طرح شكل ومضمون الدولة المنشودة، ما أفسح في المجال سريعا لعودة دولة الإستبداد، على أنقاض الخلاف على أولوية إسلامية الدولة أو علمنتها.


لقد تصرف الإسلاميون في هذا المجال إنطلاقا من حرصهم على التمسك بالشعارات التي لطالما رفعوها وقدموا أنفسهم لجمهورهم من خلالها، وربما باتوا أسرى تلك الشعارات، من أمثال: "الإسلام هو الحل". وهم في ذلك صادقون ومحقون، لكنهم لم يدركوا أن هناك في مجتمعاتهم من يفضل بقاء الظالمين والفاسدين، إذا ما كان مآل الدولة المنشودة سيكون للإسلاميين، أو لفئة منهم دون أخرى، وأن هناك شرائح كبيرة، إن لم تكن الأكبر، يهمها في الدرجة الأولى أن تؤمن لها الدولة فرص الحياة، من مسكن ومأكل، وفرص عمل، ومجالات استثمار، وتحقيق الأمن والإستقرار، وغير ذلك، دون أن يعنيها ما هو شكل الدولة أو دينها، أو من الذي يتربع على عرشها، وأن هذه الفئات مستعدة للوقوف ضد كل من يعرقل حاجاتها اليومية، أيا كان انتماؤه. فهل يجوز التفريط ببعض ما نريده وتريده المكونات الأخرى، مقابل الإصرار على استعجال الكل الذي لا يمكن تحقيقه الآن، على قاعدة: "ما لا يدرك كله، لا يترك جله". ثم إن الدولة المنشودة لدى الإسلاميين ليست بإسمها، فكم من دولة سميت بالإسلامية، ونص دستورها على مرجعية الشريعة الإسلامية، وهي لا تمت إلى القيم الإسلامية بصلة، وفي المقابل كم من دولة نصنفها بالكفر وهي أقرب ما تكون إلى قيمنا الإسلامية التي نتطلع إلى تحقيقها. وما أجمل العبارة التي نقلها إبن تيمية رحمه الله:" إن الله يقيم الدولة العادلة وإن كانت كافرة، ولا يقيم الدولة الظالمة وإن كانت مسلمة". وإن كنت لا أحبذ إطلاق حكم الكفر والإسلام على الدولة، باعتبارها آلة والحكم إنما يطلق على من يستخدم الآلة، وليس على الآلة نفسها.


أضف إلى كل ذلك أن هناك إرثا ثقيلا من التشويه لصورة الدولة الإسلامية، صنعه أعداء الإسلام، وخدمته بجهلها فئات من المسلمين أنفسهم، وهو ما يزال يدعّم بنماذج حديثة أشد سوءا من سابقاتها. ولم تتح الفرصة بعد بشكل كامل للحركة الإسلامية حتى تعمل على إزالة هذا الإرث، وإعادة رسم الصورة الحقيقية للإسلام ومدرسته في الحكم وإدارة شؤون الناس، لإقناع باقي المكونات بصلاحية النموذج الإسلامي للحكم. مما يحتم على الإسلاميين السعي لتحقيق أوسع حالة من الإستقرار والبعد عن الإستنزاف، للقيام بهذه المهمة، التي هي جزء لا يتجزأ من واجب الدعوة. وبالتالي لا بد لهم من القبول بالقيم المشتركة مع الآخرين في عملية بناء الدولة، وهذه القيم هي في الأصل جزء لا يتجزء من الإسلام، مصدقا لقول الله سبحانه وتعالى في القرآن الكريم: " قل إنني هداني ربي إلى صراط مستقيم، دينا قيما ملة إبراهيم حنيفا وما كان من المشركين".


 وهذا النوع من التحول لم يستقر بعد، لجهة تحديد حجم التنازل الذي يمكن أن تقدمه الحركة الإسلامية، على مذبح المشاركة مع المكونات الأخرى، ما بين فصل العمل الإسلامي كليا عن المسار السياسي المتعلق بشؤون إدارة الدولة، وفق النموذج التركي، إلى مقولة الدولة المدنية بمرجعية إسلامية وفق ما ذهبت إليه التجربة المصرية حتى الآن.


في مقابل هذا الإتجاه من التحولات، كان هناك اتجاه مقابل، إعتبر أن سبيل الوصول إلى الدولة المنشودة لا يمكن أن يكون عبر الطرق السلمية، مستندا إلى تجارب الإنقلاب على نتائج الإنتخابات في أكثر من قطر وفي أكثر من زمن، معتبرا أن فهوم الدولة لا يمكن أن يتحقق إلا بالإخضاع واعتماد مبدأ القوة، واعتبار أن نموذج الثورة الإسلامية في إيران التي نجحت في بناء دولة على أساس ديني دليل على صحة هذا التوجه. وأنا لا أتحدث هنا عن مجموعات القاعدة وداعش ومثيلاتها، وإنما أتحدث عن شرائح ممن كانوا حتى الأمس القريب يحملون الفكر الإسلامي الوسطي، وجزء منهم من داخل صفوف تنظيمات الإخوان المسلمين.


هذا على المستوى الفكري، أما على المستوى التنظيمي فقد أسهمت ثورات الربيع العربي بالدفع نحو إعادة حسابات الحركة الإسلامية لبنيتها التنظيمية، التي لطالما اعتمدت على النخبوية في انتقاء أعضائها، وكانت هذه النخب عمادها وعدتها في مرحلة الصبر والثبات في مواجهة القمع والتهميش والتنكيل الذي مورس بحقها طيلة عقود من الزمن. لكن المشهد بعد الربيع العربي إنكشف أولا على أن هذه النخب ليست كافية لإنجاز عملية التغيير للأنظمة، ومن ثم لبناء الدولة الحديثة، وثانيا: على أن هناك شريحة كبيرة تمثل أضعاف الأعداد المنخرطة داخل التنظيم، ممن يحملون الفكر الإسلامي السليم وفق رؤية الحركة، لكنهم لم يكونوا مستعدين للدخول إلى قفص التنظيم، أو تحمل تبعات الإنتساب إليه، أو ممن لا يحملون بالضرورة كل أفكار التنظيم لكنهم يلتقون معه في المشروع العام لبناء الدولة. هؤلاء جميعا لم يعد ممكنا أن تعتبرهم الحركة الإسلامية مجرد مؤيدين، وواجبهم أن يعطوها أصواتهم في الإستحقاقات الإنتخابية، أو يلبون نداءاتها في التحركات الميدانية، دون أن يكونوا شركاء في صناعة القرار وصياغة التوجهات التي تتبناها الحركة في كل ملف من الملفات. هذا الأمر دفع ببعض الحركات إلى تبني صيغ الأحزاب السياسية الموازية للجماعة، والتي تعتمد شروطا أسهل من شروط الجماعة في العضوية، من أجل استيعاب تلك الشرائح. لكن هذه التجربة لا تزال تعاني من مشاكل كبيرة ليس أقلها إشكالية العلاقة بين الحزب والجماعة، وهل الحزب هو مجرد إطار صوري يدار عن بعد، أم أنه كيان مستقل بكل ما للكلمة من معنى. وغير ذلك من التساؤلات التي لم تستقر أجوبتها بعد. مع تفاوت في تقدم التجربة بين قطر وآخر.


وهناك توجهات أخرى ما تزال قيد الدراسة والإنضاج، تحاول إعادة بناء هيكل الجماعة نفسه، بما يتناسب مع الدور الجديد المناط بها في المجتمع، وما يستوجبه ذلك من تعديلات في البناء التنظيمي، وشروط الإنتساب. إضافة إلى التركيز على أن الهدف الأساس من الشكل الجديد للتنظيم إنما هو خدمة المشروع العام وليس مجرد توسعة التنظيم وزيادة المنتسبين إليه.

بيروت: 21 ذو الحجة 1437
الموافق: 23 سبتمبر 2016
                                       عزام الأيوبي