خطبة الجمعة لرئيس المكتب السياسي في الجماعة الإسلامية الدكتور عماد الحوت في مسجد مركز الدعوة الإسلامية - بيروت

السبت 14 كانون الأول 2019

Depositphotos_3381924_original

الرسول الثائر والتغيير المطلوب

الحمد لله الذي أرسل إلينا سيدنا محمدٍ نوراً أضاء الكون بالحق والعدل فقال: (يا أيها النبي إنا أرسلناك شاهداً ومبشراً ونذيرا * وداعياً الى الله بإذنه وسراجاً منيرا).
والحمد لله الذي أنعم علينا أن نكون من تلاميذ مدرسة محمد صلى الله عليه وسلم، نتعلّم فيها من الرسول صلى الله عليه وسلم النموذج في كل شيء، نموذج الزوج والأب والجار والقاضي والقائد والثائر الساعي للتغيير، فلقد كانت دعوة النبي محمد صلى الله عليه وسلّم قائمة على التغيير والثورة على الواقع:

1- ثورة على الانحياز لمحورٍ غربي أو شرقي وهو الذي حوّل الأمة من أمة يتذلل زعماءُها أمام قيصر الروم وكسرى الفرس ليصبحوا كربعي بن عامر يقف أمام قائد الفرس قائلاً: "إن الله قد ابتعثنا لنخرج العباد من عبادة العباد الى عبادة رب العباد"، وكذلك نحن ينبغي أن لا نقبل أن يتحوّل وطننا الى ساحة للصراع الإقليمي الدولي أو ورقة تفاوض بين أطرافه.

2- وثورة على الولاء للأشخاص بدل الولاء للمبادئ والقيم من خلال نموذج الثورة على فرعون الذي أضلَّ قومه وقال لهم (ما أريكم إلا ما أرى وما أهديكم إلا سبيل الرشاد) فانتفض أهل الإيمان برسالة الله وما فيها من مبادئ وقيم ليقولوا له (لن نؤثرَك على ما جاءنا من البينات والذي فطرنا فاقضِ ما أنت قاضٍ إنما تقضي هذه الحياة الدنيا) فكانت نهايته أن أغرقه الله وجعله آية للعالمين.

3- وثورة على الفساد السياسي والاقتصادي من خلال نموذج قارون الذي استكبر على قومه وفتنهم بماله (فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ، قَالَ الَّذِينَ يُرِيدُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا يَا لَيْتَ لَنَا مِثْلَ مَا أُوتِيَ قَارُونُ إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ * وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَيْلَكُمْ ثَوَابُ اللَّهِ خَيْرٌ لِمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا وَلَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الصَّابِرُونَ) فكانت نهايته أن خسف الله به وبداره الأرض.

4- وثورة على المحاباة والواسطة حين راجعه اسامة بن زيد بشأن المرأة المخزومية التي سرقت، فخطب بالناس قائلاً: "أيها الناس، إنما هلك الذين كانوا من قبلكم أنهم كانوا إذا سرق فيهم الشريف تركوه، وإذا سرق الضعيف أقاموا عليه الحد".

5- وثورة على الغش حين قال للتاجر الذي كان يضع الطعام الفاسد في الأسفل: "أفلا جعلته فوق الطعام كي يراه الناس، من غش فليس مني".

6- وثورة على الرشوة حين قال بحق رجلٍ استعمله على الصدقة: "ما بال العامل نبعثه فيأتي، قيقول: هذا لك وهذا لي، فهلّا جلس في بيت أبيه وأمه فينظر أيهدى له أم لا" وهذا حال متقلدي المناصب في زماننا يدخلونها متوسطي الحال ويخرجون منها من الأغنياء فمن أين لهم هذا.

7- وثورة على منع الاحتكار واستغلال ظروف الناس في الأزمات من خلال التكافل بينهم.

لهذا كلِهِ قام اللبنانيون بالانتفاض في وجه الفساد الذي عمَّ في لبنان على حساب المواطنين من إثراءٍ نتيجةَ الصفقات، وسرقةٍ للمال العام، واستغلالٍ للطائفية والمذهبية، وغيابٍ للعدالة من خلال المحاكم العسكرية والاستثنائية، واعتماد الواسطة بدل الكفاءة.

ولكن ثورة الرسول صلى الله عليه وسلم لم تكن ثورةً سلبية، وإنما قدّم بديلاً للمنظومات السلبية التي عمل على هدمها:

1- فأوجد المنظومة المدنية مقابل المنظومة القبلية في وثيقة المدينة، حيث أنهى حروباً طالت بين الأوس والخزرج وجمع بين المسلمين وغير المسلمين في وثيقة المدينة على نظامٍ ينظم حياتهم على قاعدة العدالة والحقوق، وكذلك نحن ينبغي علينا الخروج من أسر الطائفية والمذهبية الى فضاء الوطنية والمواطنة.

2- وكرّس الحرية في المجتمع وربى عليها صحابته فخرج تلميذه النجيب عمر بين الخطاب رضي الله عنها قائلاً: "متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحرارا".

3- وكرّس العدالة الاجتماعية والقضائية: "وأيم الله لو أن فاطمة بنت محمدٍ سرقت لقطعت يدها" وحاشاها أن تفعل.

لقد حقق تحرّك الناس عدداً من أهدافه، فأسقط حكومة العهد التي أثبتت فشل أحزاب السلطة في إدارة البلد وفاقمت مشكلاته بالمحاصصة والفساد والصفقات.

فهل من المقبول أن نوافق على تجميل الصورة بحكومة تشبهها في المضمون وتختلف عنها في الشكل؟

وهل من المقبول تجاهل صرخة الناس وتأجيل الاستشارات النيابية الملزمة لتكليف رئيس للحكومة للإسراع بحكومة كفاءات مصغرة تنقذ البلاد والعباد من نتائج سوء إدارة الطبقة السياسية التي حكمت البلاد لسنين طويلة؟

وهل من المقبول محاولات حرف الحراك الذي جمع اللبنانيين الذين خرجوا من انتماءاتهم الطائفية والمذهبية أو انتمائهم لهذا الزعيم أو ذاك الى ساحة المواطنة الجامعة، والسعي لتأجيج روح المذهبية بينهم من خلال اعتداءات همجيةٍ مدانة على متظاهرين يعبرون عن قناعاتهم بالكلمة على ضرورة فتح جميع ملفات الفساد ومحاسبة الجميع واستعادة الأموال المنهوبة من جميع الأطراف.

وهل من المقبول تسخيف تحرّك الناس من خلال محاولة تحويله لمعركة حصرية أو عدم حصرية هذا الزعيم أو ذاك أو مشاركة هذا الوزير أو ذاك، بينما الناس خرجت ليس تهجماً أو دفاعاً عن أشخاص، وإنما لتنادي بمطالب واضحة أهمها:
- تشكيل حكومة كفاءاتٍ مصغّرة تقود مرحلةً انتقالية، تكون مهمتها:
- محاربة الهدر والفساد من خلال تشريعات جديدة وتفعيل تشريعاتٍ موجودة،
- ومعالجة الأزمة الاقتصادية والمعيشية التي تسببت بها الطبقة السياسية المتعاقبة على إدارة شؤون البلاد،
- وانتخابات نيابية مبكرة وفق قانونٍ انتخابي جديد.
ومن يأتي لينفذ هذه المطالب سيكون مقبولاً من الناس، ومن يأتي لينفّذ برنامجاً آخر لن يكون مقبولاً منهم والمعيار في كل ذلك البرنامج وليس الإسم.

أدعوكم اليوم الى أن نستلهم من النبي محمدٍ صلى الله عليه وسلم روح الثورة وحب التغيير، وأن نتفاعل مع تحرك الناس بكل طاقتنا، وإلا فمتى ينتفض الإنسان إذا لم يكن حين يرى أنه يسرق بكل وقاحة، وحين يرى مستقبل أولاده بخطر، وحين يسمع قول النبي صلى الله عليه وسلم (سيد الشهداء حمزة ورجل قام الى إمام ظالم فأمره ونهاه فقتله).

أدعوكم الى أن نساهم في المحافظة على حراك الناس ضاغطاً على الطبقة السياسية الحاكمة من خلال المحافظة على لونه الوطني الجامع بعيداً عن الطائفية والمذهبية والحزبية، ثابتاً على مطلبه بمحاسبة جميع الفاسدين وإسقاطهم، فالفساد لا دين له ولا مذهب ولا منطقة.

وأدعوكم الى أن نمارس أوسع عملية تكافلٍ اجتماعي ممكن لنتجاوز جميعاً هذه الأزمة المعيشية الضاغطة،
- فليصبر صاحب العمل على العاملين لديه،
- وليصبر العاملون على صاحب العمل إن عدّل في دوامهم وراتبهم مؤقتاً للحفاظ على وظائفهم،
- وليصبر صاحب الدَّين على المدين على قاعدة فنظرةٌ الى حين ميسرة،
- وليساهم صاحب المتجر في تخفيف عبء الأزمة عن المواطنين من خلال عدم رفع الأسعار إلا بمقدار ما يمنع الضرر الكبير على رأسماله الذي يعمل من خلاله،
- وأن نمتنع عن التخزين المبالغ به للمواد الغذائية،
- وأن نعمل بوصية الرسول صلى الله عليه وسلم (والله لا يؤمن من بات شبعاناً وجاره جائع)،
وغير ذلك من الإجراءات الكثير.
أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم، أستغفر الله.